ملاحظة: هذا المقال مأخوذٌ عن المدوِّنة "آنجل كرنوف" (Angel Chernoff)، وتُحدِّثنا فيه عن تجربتها في استخدام مفهوم الندم المرافق للاحتضار في تجديد طاقة وشغف الإنسان في الحياة.
كنتُ في حالة صدمة وذعر ورحت أفكر بحادثة الموت الوشيك التي تعرضت لها للتو، ثمَّ ما لبث أن تحوَّل خوفي إلى بهجة جرَّاء إدراكي لحقيقة فناء الإنسان وقرب الموت منَّا، وعند هذه اللحظة بالذات استعدت شغفي وطاقتي وحياتي.
قال رجل الأعمال الأمريكي الراحل ستيف جوبز (Steve Jobs) ذات مرة: "ساعدَني إدراك قُرب الموت منِّي على اتخاذ القرارات المصيرية في حياتي"، وتجدر الإشارة إلى أنَّه بدأ بإنتاج هواتف آيفون (iPhone) بتكلفة تُقدَّر بمليارات الدولارات بعد هذا التصريح بمدة قصيرة.
يغفل معظم الأفراد عن وجود خاصيَّة الفناء ويجهلون قدرتها على مساعدتنا على إحراز التقدُّم، إذ إنَّنا نمضي في حياتنا دون التفكير بأنَّها ستنتهي يوماً ما، وهذا سبب مواصلة 80% من الأمريكيين عملهم في وظائف تسبب لهم التعاسة وفق عدة دراسات.
يمضي معظم الأفراد حياتهم في غفلة من أمرهم عازمين على تأجيل جميع أحلامهم ورغباتهم إلى "الوقت المناسب" على حدِّ تعبيرهم، حتى ينتهي بهم المطاف دون تحقيق أي شيء يُذكَر.
لهذا السبب يقال أنَّ المقابر أثرى البقاع على وجه البسيطة، فهي زاخرة بالكتب والأغنيات المؤجَّلة والأماني والأحلام غير المحققة، ولا يدرك معظمنا القدرات والأحلام المؤجلة الكامنة في داخله حتى يقترب أجله.
إقرأ أيضاً: الندم هو شعور لا يمكن الاعتماد عليه
ثمة ممرضة رعاية أسترالية تدعى "بروني وير" (Bronnie Ware) أمضت سنوات في العمل مع المرضى خلال آخر أيام حياتهم، قامت في أثناء ذلك بتدوين أسباب ندمهم وهم على وشك الرحيل ووثَّقت معلوماتها في كتاب "5 أشياء ندم عليها من رقدوا على سرير الموت" (The Top Five Regrets of the Dying).
نقدم فيما يأتي 3 من الأشياء الخمسة الواردة في الكتاب:
يجب أن تخصِّص بعض الوقت لتنظر في مستقبلك وتتخيَّل موقفك من الحياة وأنت راقد على فراش الموت، محاط بأفراد عائلتك، يحدِّق كلٌّ منهم بجسدك المحتضر، عليك أن تستحضر هذا المشهد وتنغمس في تفاصيله ثم تسأل نفسك عن الأمور التي تندم عليها في حياتك.
شاهد بالفيديو: 6 أخطاء نرتكبها في شبابنا ونندم عليها عندما نكبر
قال الكاتب النمساوي فيكتور فرانكل (Victor Frankl) ذات مرة: "يقتضي وجود معنى وغاية في الحياة بالضرورة وجود حكمة ورسالة خفيَّة في المعاناة، وتعدُّ المعاناة والقدر والموت أجزاء أصيلة في الحياة البشرية التي لا يمكن أن يتحقَّق كمالها دون وجود المعاناة والموت".
آمن محاربو الساموراي القدماء بوجوب ممارسة تأمُّل الموت الحتمي يومياً وعد المرء لنفسه ميِّتاً، ويقتضي التمرين العقلي تخيُّل المرء لمصرعه في أحد المعارك أو غرقه في المحيط أو احتراقه أو سقوطه من مكان مرتفع وغيرها من طرائق الموت المختلفة.
لا تنمُّ هذه الممارسات عن أيِّ بواعث مَرَضية أو تشاؤمية، إذ يكمن في استيعاب مفهوم الموت أقوى دافع للنفس الإنسانية وهو الرغبة بعيش حياة هادفة ملؤها الشغف.
لا بدَّ أن يتعرض الإنسان لتجربة موت أحد أحبَّته جرَّاء الحروب أو الأمراض وغيرها من الأسباب، وتراه يتمنَّى لو يستطيع افتداءه بروحه والرحيل عوضاً عنه، ولا يسعه في النهاية إلَّا قبول الواقع وتخليد ذكرى فقيده العزيز.
يمدُّنا مفهوم الموت بالقوة التي نحتاج إليها لعيش حياتنا على أكمل وجه ومساعدة الآخرين في هذا الصدد لا سيما في وقت الأزمات، ونحتاج إلى إثبات أنَّنا نستحق الحياة ونؤدي رسالتنا الوجودية على أكمل وجه في ظل رحيل الآخرين من حولنا، أي إنَّ الموت يمنح الحياة معنى.
يساعدنا تقبُّل الموت على تكوين تصوُّر جديد وأكثر شمولية للحياة، فنحن لا نميز حلاوة الحياة إن لم نتذوق مرارتها؛ أي إنَّ إلغاء أحدهما يجعل الحياة رتيبة وثابتة الإيقاع.
ينصُّ تأمل الموت ببساطة على التسليم بوجود نهاية لحياة الإنسان لحثِّه على تقدير الحاضر وعيشه على أكمل وجه واستعادة شغفه في الحياة، ويمكن أن نعزو هذا التأثير إلى حقيقة أنَّنا لا ندرك قيمة الشيء حتى نخاطر بفقدانه، ولا بدَّ أن يكون للمخاطرة بوجودنا الأثر الأكبر في تغيير منظورنا للحياة وإدراك قيمتها.
استقلتُ من عملي السابق عام 2012 عندما ضقت ذرعاً منه وكنت على وشك فقدان شغفي في الحياة، ثمَّ جمعت مدَّخراتي وقضيت شهراً كاملاً في جر مزلجة ثقيلة لمسافة طويلة في ظروف مناخية قاسية إذ بلغت درجات الحرارة 40 درجة تحت الصفر، وذلك في جزيرة غرينلاند (Greenland).
قرَّبتني الصعوبات اليومية والمعاناة المتواصلة من الحياة، وجعلتني أشعر بالطاقة والانتعاش والحياة تسري في عروقي من جديد، مع أنَّ الموت لم يكن مصدر قلق مستمر في الجزيرة، لكنَّه كشف عن نفسه من خلال الصدوع الجليدية والدببة القطبية خلال رحلة الاستكشاف.
تبيَّن لي أنَّ المعاناة توازي خطر الموت من حيث التأثير النفسي، وساعدني كلاهما على التفكُّر في مباهج ومتع الحياة، ونجحت التجربة في النهاية بتجديد الطاقة والشغف والحماسة في داخلي حتى أكون صادقة مع نفسي وأعيش الحياة التي تناسب شخصي وأؤسِّس مستقبلي وفق شروطي الخاصة.
أسَّست عملين تجاريين بعد عودتي من رحلتي الاستكشافية، وأنا أعيش حياتي بطريقتي الخاصة منذ ذلك الحين.
تتطلب المحاولات المصيرية خوض الصعوبات والمخاطر والتضحية، سواء كانت استقالة من العمل أم تأسيس عمل تجاري أم سفراً للبقاع النائية في العالم، وقد ترعبك هذه الأفكار وعندها يجب أن تدرك أنَّ الخشية من ضياع الحياة سدى يفوق الخوف من المجهول.
نقدِّم فيما يأتي بعض الخطوات لتجديد طاقتك وشغفك في الحياة وقبول حتمية الفناء التي تشكِّل الدافع الأكبر للنفس البشرية:
يمكنك في البداية أن تمارس تمرين التأمُّل المذكور آنفاً؛ وذلك من خلال إغماض عينيك في وضعية الجلوس، وتركيز فكرك على مفهوم الموت؛ أي أن تستحضر مشهد موتك وتستشعر أثره فيك، وتكمن أهمية التمرين بالانفعالات المتولدة داخلك وليس بمدة التأمل.
من الضروري أن تعيش تجربة نهاية حياتك وما تنطوي عليه من أفكار ومشاعر؛ إذ بوسع هذه الانفعالات أن تعينك على إحداث التغييرات اللازمة، وحالما تنتهي من التمرين عليك أن تتخذ إجراء يدفع حياتك قدماً للأمام، وبذلك لن يكون لديك أي سبب للندم وأنت على فراش الموت عندما يقترب أجلك.
يجدر بمن يصبو إلى تحسين حياته أن يخوض تجارب تذكِّره بحضور الموت أو المعاناة؛ أي القيام بأعمال شاقَّة أو خطرة كالغوص أو تسلق الجبال أو السفر للمناطق النائية في العالم وغيرها من الممارسات التي تحفز المرء جسدياً وعقلياً وعاطفياً وروحانياً؛ ستجد في المجهول إمكانات لا حصر لها لتقدِّر قيمة كل لحظة من حياتك، لكن عليك بداية أن تتخذ قرار المجازفة وهو عائد لك بالكامل.