أثر الانشغال غير المبرر على حياتنا

أثر الانشغال غير المبرر على حياتنا
(اخر تعديل 2024-05-01 06:00:20 )
بواسطة

كان صباحاً مزدحماً جداً في محطة مترو الأنفاق عندما بدأ الشاب بالعزف، فكان الآلاف من الناس يهرعون إلى العمل أو المدرسة أو أيِّ مكان آخر يتجهون إليه، وكانت القطارات تأتي وتذهب، ومع ذلك وعلى الرَّغم من الضجيج والازدحام، كانت الأنغام المذهلة التي تصدر من كمان هذا الشاب تصدح في محطة مترو الأنفاق، وكان من المستحيل تجاهلها.

طوال 43 دقيقة سار أكثر من 1000 شخص عبر أبواب مدخل مترو الأنفاق حيث كان عازف الكمان الأمريكي الشهير "جوشوا بيل" (Joshua Bell) يعزف، ولو كان أيُّ فنان آخر غيره يعزف فلا غرابة أنَّه لن يجذب انتباه الناس؛ ولكنَّ "جوشوا بيل" لم يكن مجرد فنان يعزف في الشارع؛ بل كان أشهر عازف كمان في العالم، وكان يعزف إحدى أصعب المقطوعات الموسيقية على الإطلاق، وذلك على كمانه الذي تبلغ قيمته 3,000,000 دولار، ولكن لم يلحظه أحد تقريباً؛ لأنَّه لم يبدُ شخصاً مميزاً، ولأنَّ مشاغل الجميع كانت أكبر من أن يتوقفوا ويستمعوا إلى الموسيقى.

الانشغال غير المبرَّر: الخطأ الذي نرتكبه يومياً

فكر كم مرة كان الانشغال عذرك؟

كان هذا عذري شخصياً كل يوم مثل هؤلاء الأشخاص الذين لم يكن لديهم الوقت للاستماع إلى موسيقى العازف "جوشوا بيل"، فقد كان جدول أعمالي لا يترك لي أي وقت إضافي لأمور غير مخطط لها، وكنت فخوراً بانشغالي؛ إذ أردتُ أن يعرف الجميع كيف أنَّ القيادة من مكان إلى آخر في سيارتي المريحة كانت معاناة كبيرة بالنسبة إلي، وناهيك عن التوفيق بين العمل والعائلة، ومساعدة المتدربين والقراء في الدورة التدريبية التي أقدمها لهم، ومن ثمَّ الإسراع على الفور للتسوق، والتحضير للمناسبات، ليتبقى لنا ساعة فقط لإطعام ابننا والاعتناء به قبل النوم كل ليلة.

لقد كنت أخبر الجميع بمدى انشغالي الشديد، ولكنَّني تغيرت الآن، وبتُّ أتمهَّل لأستمتع بصُدف الحياة، فالانشغال ليس وسام شرف، ولا معنى للانشغال اللامتناهي؛ بل هو مجرد خطأ يجعل كل شيء أصعب ممَّا يجب أن يكون.

صعوبة الحياة الناتجة عن الانشغال:

إذا لم نكن تحت خط الفقر ومضطرين للعمل في ثلاث وظائف لنؤمِّن قوت يومنا، فإنَّ 98% من انشغالنا هو من صنع أيدينا، وباستثناء الانشغالات التي تسببها مفاجآت الحياة.

لقد تمكَّنت أخيراً من معرفة سبب انشغالي بعد دراسة طويلة اكتشفت من خلالها أنَّه كان بإمكاني التحكم بالأمر دوماً، ففي معظم الحالات أنا مَن كنت أثقل كاهلي بالاستعجال والقلق دون وجود أي داع لذلك، فتراني أحث أفراد العائلة وزملاء العمل وكل شخص قريب مني على الإسراع.

  • "إذا لم تنتهِ من تناول الطعام، فسوف نتأخر".
  • "إذا لم ننجز هذه المهمة خلال ساعة، فلن نحقق هدفنا أبداً".

الغريب في الأمر هو أنَّني سواء استعجلت الآخرين أم لا، ففي النهاية يكون الجميع جاهزاً في الوقت نفسه؛ ولكنَّ الفرق الوحيد هو أنَّني عندما أستعجلهم يشعر الجميع بالتعاسة بمن فيهم أنا.

اتضح لي أخيراً أنَّ كل انشغالي تقريباً كان رد فعل مبالغاً فيه بوصفه محاولة مني لاختصار الوقت، وجعل حياتي بطريقة ما أسهل، ولكن حدث خلاف ذلك تماماً؛ إذ لم يؤدِّ انشغالي إلا إلى القلق والمرارة والتعقيد، وحتى في الأيام التي كان انشغالي فيها حقيقياً كان ذلك عادة بسبب اكتظاظ جدولي الزمني بمهام وضعتها بنفسي، وهذا كله جعلني أفكر: لماذا أجعل حياتي أكثر صعوبةً وانشغالاً وتعاسةً بملء إرادتي؟

شاهد بالفديو: 5 نصائح للعناية بالنفس حينما تكون دائم الانشغال

سبب ومبرر الانشغال الدائم:

يتعلق جزء كبير من سبب امتلاء حياتنا بمشاغل لا داعي لها باستخدامنا المتواصل للأجهزة الرقمية، واتصالنا الدائم بالإنترنت، وتعقب الأخبار، ومقارنة أنفسنا بالآخرين، فنحن نحدد أنفسنا بناء على مكانتنا ومقتنياتنا مقارنة بالآخرين، فإذا لم يكن لدينا مهنة أو منزل أو سيارة أفضل، فإنَّنا نشعر بالدونية، والطريقة الوحيدة التي يمكننا بها القيام بعمل أفضل هي أن نكون أكثر انشغالاً في العمل أياً كان، فالمسمى الوظيفي والأشياء التي نقوم بها هي التي تحدد قيمتنا، حتى إنَّها عادة ما تكون أول موضوع نشاركه مع الغرباء الذين نلتقي بهم.

ننشر على مواقع التواصل الاجتماعي مدى انشغالنا، ونملأ التقويمات بأعمال غير ضرورية تشغلنا، وذلك كي نتجنب واقعنا الذي نظن أنَّه لا يلائمنا، ولكن في خضم كل ذلك نغفل عن السَّكينة والجمال في أنفسنا، ويفوتنا صفاء وروعة العالم من حولنا؛ بسبب التسرع والقلق والحاجة اللامتناهية إلى الوجود في مكان آخر والقيام بشيء آخر بأسرع ما يمكن.

في الختام:

دعنا نستيقظ كل صباح من الآن فصاعداً لنتخلص من انشغالنا غير المبرر، ونمضي في يومنا بوعي ونمارس نشاطات مفيدة، ودعنا ننظم حياتنا ونخفف المهام في جداولنا، ونفسح المجال للتفكير والاستمتاع بالهدوء من حولنا؛ ليتسنى لنا التمهل لسماع الموسيقى والابتسام عندما تسمح الفرصة.