كيف عرَّف الأدب التفوق والازدهار وكيف علمنا

كيف عرَّف الأدب التفوق والازدهار وكيف علمنا
(اخر تعديل 2024-04-05 06:07:14 )
بواسطة

لقد حاولَت أفضل تلك الأعمال الأدبية القديمة الإجابةَ عن سؤالٍ واحدٍ يتمثل في الطريقة التي ينبغي على المرء أن يعيش حياته بها، ولعلَّه أمرٌ منطقي جداً؛ فبعد أن ينتهي الناس من التفكير بالسؤال عن كيفية إيجاد الطعام والمأوى، يتسنَّى لهم الوقتُ أخيراً للانتقال إلى موضوعٍ آخر والتساؤل عن الطريقة التي ينبغي عليهم عيش حياتهم بها.

يعبِّر الكاتب الأكثر نفوذاً وتأثيراً في الحضارة الغربية "هومر هيكام" (Homer Hickam) عن إجابته الخاصة عن السؤال السابق؛ فيُخبرنا من خلال قصيدتَيه الملحمتين "الإلياذة" (Iliad) و"الأوديسة" (Odyssey) كيف اعتقد مع العديد من اليونانيين القدماء أنَّنا يجب أن نعيش حياتنا، وذلك من خلال تجسيد أو إعطاء أمثلةٍ ونماذج حية في "الأرتولوجيا" (arête) التي تُعدُّ شكلاً من أشكال السير الذاتية المُقدَّسة.

تعريف الأرتولوجيا:

يُعَدُّ التفوق أو الامتياز والازدهار التعريفَ الأكثر شيوعاً "للأرتولوجيا"، ويُعدُّ هذا التعريف جيداً ومعقولاً إذا ما كنا ننظر "للأرتولوجيا" على أنَّها مُجرَّد كلمة تحتاج إلى الترجمة في إحدى الصفحات، ولكن علينا أن نتعمق جيداً في البحث عن معناها إذا أردنا معرفةَ سبب اعتقاد "هومر" بأنَّها أجابت عن السؤال عن الطريقة التي ينبغي على المرء أن يعيش حياته بها.

نصادف تعريفاً آخر لها؛ وهو الشجاعة عند التعمق قليلاً في البحث عن معناها، وهو تعريف جيد كذلك إذا كنا نبحث عن ترجمتها فقط، ولكنَّه مع ذلك لا يُجيب عن سؤالنا بعد، ولذا عند التعمق أكثر في البحث نجد القوةَ كتعريفٍ "للأرتولوجيا"، وهنا نصبح متأكدين من أنَّنا نستطيع ترجمة هذه الكلمة كلَّما صادفناها؛ إذ سيكون أحد تعريفاتنا الأربعة السابقة هو الترجمة الأمثل والأفضل لها، ولكن إذا توقفنا عن البحث عن معناها عند هذه النقطة، فسنجد أنفسنا عاجزين عن فهمها أو إدراكَ معناها من وجهة نظر "هومر" نفسه حتَّى.

لذا علينا أن نتعمق أكثر وأكثر من ذلك ونفتش عن المعنى، كما يجب علينا إجراء بحثٍ أثريٍّ حقيقي في منطق وحكمة العصور القديمة، ولكنَّ الأمر يستحق كلَّ هذا البحث والعناء؛ لأنَّك لن تستغرق وقتاً طويلاً قبل أن تجد إجابةَ "هومر" عن السؤال الأساسي عن الطريقة التي ينبغي أن يحيا المرء في حياته بها.

في قصيدتَي "الإلياذة" و"الأوديسة"، تجسد شخصيات "هومر" الرئيسة جميعُها "الأرتولوجيا"، مع اختلاف مفهوم "الأرتولوجيا" بالنسبة إلى كلٍّ منهم، أي إنَّ لكل شخصية منها "الأرتولوجيا" المُميَّزة الخاصة بها، كما تتمتع جميع هذه الشخصيات بنقاط قوةٍ فريدة ومميزة.

حين تركز الشخصيات السابقة على نقاط قوتها وتمارسها وتتدرب عليها، فهي تجسد "الأرتولوجيا"، ولذا فإنَّ ما يعكس التفوق والتميز؛ هو تجسيد أمرٍ ما والحرص على أن تكون مثالاً حياً له لا أن تكون ممتازاً في تأديته فحسب.

تبين أنَّ "الأرتولوجيا" تعني التفوق والامتياز فقط عندما تستثمر نقاطَ قوتك والأمورَ التي تبرع فيها وتقتنص الفرص المتاحة أمامك، وليس من طبيعة "الأرتولوجيا" أن تحدد ما إذا كانت جوانبك الإبداعية ونقاط قوتك تقود إلى نجاحٍ فعليٍّ أم تودي بك إلى الفشل الذريع، فمن الممكن أن تؤدي إلى النجاح في أغلب الأوقات فقط، لا في جميع الحالات.

تتمحور "الأرتولوجيا" حول ممارسة نقاط قوتك والتدرب على تنميتها جيداً، واستخدام عقلك وجسدك ومشاعرك للاقتراب قدر الإمكان من إدراك إمكاناتك ومواهبك واستثمارها، وهي الطريقة التي ينبغي أن نحيا حياتنا بها؛ فعندها سنكون مثالاً حياً يجسد "الأرتولوجيا" من خلال فعل ما يجب على كلٍّ منَّا فعلُه سواء حققنا النجاح في حياتنا أم لا، وهو ما يُعيدنا إلى تعريف الشجاعة والقوة.

يتطلَّب الأمرُ كثيراً من الشجاعة ليكونَ الإنسان صادقاً مع نفسه بشأن الأمور التي يبرع فيها جيداً، فهي أشبه بلحظة الحقيقة الحاسمة؛ وهي اللحظة التي تسأل نفسك فيها عن الأمور التي تبرع فيها فعلاً وتملك فيها موهبةً حقيقية، وليس عن الأشياء التي تشعر برغبة في إتقانها والإبداع فيها، وعندَها ربَّما لا تكون الإجابة عن هذا السؤال ما تريده حقاً.

لا يعني هذا بأنَّ الأمور ستمضي بسلاسة ودون أي مشكلات بمُجرَّد إيجاد الشجاعة لتكون صادقاً مع نفسك، فما يزال من غير السهل إتقان الأشياء التي تبرع فيها، وهُنا تتدخل القوة وتصبح مشاركاً وعنصراً أساسياً يجب امتلاكه؛ وسيتطلب الأمر تحلِّيك بقوة الشخصية لبذل الجهود الكبيرة والعمل الشاقِّ اللازم لتجسيد "الأرتولوجيا"، ولكن اطمئن وتأكَّدْ بأنَّه سيكون العمل الصحيح والصائب الذي خُلِقتَ لتفعله.

شاهد بالفديو: 12 عبارة رائعة عن النجاح والطموح

استخلاص العبر من قصيدتي الإلياذة والأوديسة:

أولاً، لا تتجاهل كلام الآخرين ونصائحهم لك حين تكون في مرحلة اكتشاف نقاط قوتك؛ إذ لا تعني "الأرتولوجيا" أنَّك تمتلك إجاباتٍ لكل شيء، فليس من الهام كيف تتوصل إلى معرفة مواهبك والأمور التي تبرع فيها إن كنت ستكتشفها في النهاية.

ثانياً، لا تعني "الأرتولوجيا" أن تفعل الأشياء التي تحبُّها، بل تعني أن تحبَّ عملك والأشياء التي تبرع فيها وتتقبل الأمور التي خُلِقتَ لأجلها والتي من المُقدَّر لك ممارستها، ومن ثمَّ عليك أن ترقى لمستوى تلك المواهب والإمكانات وتحيا حياتك بمُقتضاها من خلال بذل قصارى جهدك كي تتفوق فيها وتتقنها جيداً.

كان هدف "هومر" من قصيدتَي "الإلياذة" و"الأوديسة" الترفيه والتعليم في الوقت نفسه، ولكنَّنا ننظر اليوم إلى هاتين القصيدتَين الملحميَّتين كأعمال فنية عظيمة ورائعة، ونتوقف عند ذلك؛ إذ نجدُ الجمال والروعة في كتاباتهما النثرية وننسى السبب الذي جعل هاتين القصيدتين من أهم الأعمال الأدبية الخالدة.

محظوظٌ جداً مَنْ تسنَّت له قراءة هاتين القصيدتَين ودراستهما، ولكنَّهما تحثَّان القارئ على مزيد من البحث الفكري؛ إذ تشعر وكأنَّ هناك المزيد فيهما، ولكن نادراً ما يغوص الأساتذة أو المعلمون في أعماق تلك القصائد وتفاصيلهما.

في الختام:

من الصعب أن تخطر لك على الفور الفكرةُ بأنَّك قادرٌ على تعلُّمِ عيش حياتك من خلال قصيدتَي "الإلياذة" و"الأوديسة"، فيتطلب الأمر كثيراً من الوقت والسنوات لفهم الحكمة القديمة الموجودة في هذه الأعمال الفنية العظيمة، ومن ثمَّ اختبارها وتجربتها، ولكنْ عليك ألَّا تستغرق كلَّ هذا الوقت لفعل ذلك.