تحكَّم في حديثك الذاتي إذا أردت التحكُّم في

تحكَّم في حديثك الذاتي إذا أردت التحكُّم في
(اخر تعديل 2024-04-14 06:00:22 )
بواسطة

ملاحظة: هذا المقال مأخوذٌ عن الكاتب "راندي هويل" (Rande Howell)، ويُحدِّثنا فيه عن كيفية تغيير حياتنا من خلال إدراك حديثنا مع ذاتنا وتغييره.

كانت تقول لنفسها مثلاً إنَّ أنفها قبيح للغاية، وبشرتها سيئة، ويوجد كثير من التجاعيد الواضحة تحت عينيها، وأنَّها تعاني من السمنة بشكل واضح، ولن يرغب أحد بالتعرُّف إليها بسبب مظهرها القبيح؛ بل إنَّها أيضاً تحتاج إلى جراحة تجميلية لتبدو مقبولة الشكل، وفي هذه الأثناء كان التوتر يستنزف طاقة "باميلا"، وتبدأ بالشك في نفسها، وقدرتها على تحقيق حياة مُرضية لنفسها، وكان الغريب في الأمر هو أنَّ "باميلا" تعرف أنَّه لا صحة لهذه الأحكام القاسية، وكانت تتمتع "باميلا" بقوام رشيق، وتتمتع بوجه جميل وبشرة نقية وخالية من العيوب.

حاولت "باميلا" مع مرور الوقت تفنيد هذه الأحكام السلبية، وحاولت التوقفَ عن التفكير، وجرَّبت ترديدَ عبارات التحفيز الإيجابية، والتفكير الإيجابي الذي كانت تشعر بأنَّها مضطرة له من أجل مقاومة الأفكار السلبية، وقد نجحت هذه الأساليب لفترة من الوقت، ولكن كانت تعود هذه الأفكار وتقتحم ذهنها وتدفعها إلى الشك بنفسها.

كان الحل بالنسبة إلى "باميلا" للتعامل مع ما تسببه هذه الأفكار السلبية من ضيق؛ هو الحل الشائع لدى الكثيرين، والمتمثِّل بتجنُّب مواجهة هذه الأفكار من خلال الانشغال بالعمل، أو غير ذلك من النشاطات التي تقوم بها وحدها أو مع أصدقائها، والخلاصة أنَّها كانت تسعى بكل جهدها لأن تصرف انتباهها عن الأحكام السلبية القاسية التي كانت تطلقها على نفسها دون إرادتها.

الحوار الذاتي: اعلم أنَّ أفكارك لا تمثَّل هويتك الحقيقية بالضرورة

ما تختبره "باميلا" في المثال المذكور آنفاً هو حالة يمكن تشبيهها بأنَّ حديثها مع نفسها يأخذ شكل الأفكار.

يدخل الإنسان في حالة من الصراع عند حدوث ذلك، فتغذي شكوكه في ذاته الأحكام السلبية التي تنطلق رغماً عنه، ونقيض ذلك صحيح، ومثل الفتاة في مثالنا، لدينا جميعاً بعض الاختلاف بين ما نريد أن نقتنع به، وبين شكوكنا بصحته، سواء أردنا الاعتراف بذلك أم لا، ويكمن الحل في التعرُّف إلى هذا الصراع الداخلي وتمييزه عن ذاتنا الحقيقية إذا سبق لك أن فكَّرتَ بشيء ما، وشعرتَ بالتردد في الحكم على صحته، فيكون لديك رأيان متضاربان، فقد اختبرتَ ما نسميه بالحوار مع الذات بشكل مباشر.

لا يبالي معظمنا بهذه الأفكار، ويعد أنَّها مجرد أفكار واهية تأتي وتذهب من تلقاء نفسها، ومع ذلك فإنَّ عدم إدراكك لأفكارك، أو عدم فهمها لا يعني أنَّها ستتوقف عن التحكُّم في حياتك؛ لذا كن واثقاً من أنَّ لهذه الأفكار القوة الكافية لتصميم حياتك، وإذا تجاهلت هذه الأفكار، فليس من المضمون أن تصل إلى النتائج المرغوبة، والأمر متروك للاحتمالات طالما أنَّك تحت رحمة هذه الأفكار.

شاهد بالفديو: 9 طرق لممارسة التحدث الإيجابي إلى الذات من أجل تحقيق النجاح

الحوار مع الذات: المخاطر التي تترتب على عدم إدراكه

يلاحظ معظمنا هذا النوع من الحديث مع الذات، ولكنَّنا نتجاهله، ولا نبوح به لأحد خوفاً من انتقادهم لنا، ولكنَّنا بذلك نفاقِمُ المشكلة؛ إذ يجب أن نصارح أنفسنا بهذا النوع من الأفكار ونبوح لشخص ما به، فهذا أمر ضروري إذا أردنا تحقيق السعادة واكتشاف هدف أسمى وله معنى في حياتنا، فعندما نتعلَّم فهم المغزى من الأفكار التي تراودنا، يصبح ممكناً أن نغيِّر أي شيء في حياتنا.

يُعدُّ التعرُّف إلى المغزى الكامن في حديثنا مع ذاتنا أمراً هاماً جداً من أجل إحداث تغيير جذري في حياتنا، وثمة مخاطرة كبيرة في أن نخسر كثيراً من الفرص عندما لا نتعلَّم كيف نصغي إلى هذا الصراع الداخلي، والبقاء بلا هدف يجعلنا نمضي في الحياة دون وجهة، ويتكرر حدوث الأشياء دون أن نفهم سببها، وما يبيِّنُه لنا حديث "باميلا" مع نفسها، على سبيل المثال؛ هو أنَّ ذواتنا تتكون من عدة جوانب، بعضها داعم وإيجابي، وبعضها الآخر سلبي وهدَّام، ولا يدرك كثيرون منا أنَّ ثمة حديث من هذا النوع يجري في أذهاننا.

إنَّ هذه الغفلة تعرِّضك لأن تكون ضحيةً لأحداث الحياة التي تسميها حظاً أو قدراً، وفي حين أنَّها نتيجة لعدم إدراكك لهذا الصراع، فالأشخاص الذين فقدوا السيطرة تماماً على حياتهم، هم أولئك غير المدركين للحديث الذاتي الذي يجري في أذهانهم، وما يملكه من تأثير في حياتهم، وبعضهم يدرك القليل مما يجري في داخله، في حين أنَّ إحدى الفئات تعي تماماً حديثها الذاتي مع نفسها، ومع ذلك تتجاهله بسبب ما يؤدي إليه من مشاعر ضيق وانزعاج، وهذا يحدُّ من إمكانية عيش حياتهم بأقصى إمكاناتهم.

الحوار مع الذات: كيف نقع في فخ منطقة الراحة؟

غالباً ما يتجاهل الناس حديثهم مع ذواتهم، بحيث لا يغفلون تماماً عنه، ويشغل معظم الناس أنفسهم بالعمل والتسلية، والتمرينات الرياضية، وألعاب الفيديو، وكل ما هو ضروري لتجنُّب الضيق الناتج عن الخروج من منطقة الراحة الخاصة بهم، ويخشى الكثيرون من الأحكام السلبية التي يطلقونها على أنفسهم في هذا النوع من الحوارات مع الذات؛ لذلك يحبسون أنفسهم في منطقة الراحة حتى يتجنَّبون ملاحظة هذه الحوارات.

صحيح أنَّ منطقة الراحة تمنحك الشعور بالأمان، ولكنَّها تحرمك في نفس الوقت من الفرص لتطوير ذاتك، وتجعلك عالقاً في أنماط متكررة ومألوفة، وهذا الأمر يؤدي إلى تكرار المحاولات الفاشلة، وهو ما يُسمى بالنبوءة التي تحقق ذاتها، وقلة قليلة من الناس يتعلمون كيفية مراقبة حديثهم مع ذاتهم، وتفنيد ادعاءاته، وفهم المغزى الكامن فيه.

من خلال التعرُّف إلى هذه الأفكار داخل عقولنا، فإنَّنا نحرِّرُ أنفسنا من سيطرتها على حياتنا، ونتمكن من الاستفادة من إمكاناتنا إلى أقصى حد، ويجب ملاحظة بعض الجوانب السلبية في الذات ومواجهتها، وبعض الأجزاء الإيجابية في الذات التي يجب أن نفعِّلها؛ إذ يمكننا أن نغير مصيرنا إلى الأبد من خلال تفعيل الجوانب الإيجابية في شخصياتنا.

علينا أن ندرك الصراع الذي ينشب في أذهاننا، وبمجرد أن ندرك أنَّ التفكير هو عملية حيوية في الأساس يصبح السؤال الأساسي: ما هو الجزء المسؤول عن التحكُّم في جهاز الإدراك والتفكير الذي نسميه "العقل"؟ ستفاجئك الإجابة على الرغم من أنَّ التفكير هو جانب هام جداً، إلا أنَّ جانباً من ذاتك هو الذي يتحكم في الأفكار التي تحول دون تحقيق أقصى إمكاناتك، وتحدُّ من فرص الحياة.

الحوار مع الذات: الأنماط الفكرية التي تشكِّل تصورنا عن العالم

يتيح لك إدراك الحديث السلبي الذي يدور في ذهنك الفرصة لتصميم حياتك كما يحلو لك.

تربينا جميعاً على أساليب إدراك معينة أصبحت وسيلتنا في التعرف إلى العالم من حولنا، وتؤثِّر هذه الأساليب الإدراكية في كيفية فهمنا للعالم، وما نعتقد أنَّ بإمكاننا تحقيقه في حياتنا؛ إذ تمثل هذه الأساليب القصصَ التي نقنع أنفسنا بها، وتشكِّل لاحقاً منطقة الراحة الخاصة بنا، وتصبح هذه المحادثات جزءاً أساسياً من شخصياتنا قبل أن نملك القدرة على إدراكها؛ إذ تصبح بمجرد إنشائها العالمَ الذي نعيش فيه، والحقيقة أنَّ محادثاتنا مع ذاتنا تحكم تصورنا، وتسيطر على حياتنا، وإذا أردتَ تغيير عالمك، فعليك أن تتعلَّمَ كيف تحدد المحادثة التي تتحكم في تفكيرك، وعليك أن تتعلَّمَ كيف تتخلص من تأثير الرواية التي تقولها لنفسك في حياتك.

شاهد بالفديو: كيف ترفع من قيمة ذاتك وتثق بنفسك أكثر

كيف تقوم بذلك؟

إليك هذا المثال العملي لكيفية تحقيق ذلك:

أعملُ مع محامٍ يعمل في شركة محاماة كبيرة وذات نفوذ واسع، ولكنَّه غير راضٍ أبداً عن حياته، وقد أصبح مكتئباً في الواقع، وفاقداً للأمل، ومع ذلك، لو أنَّه استطاع التفكير في اكتئابه على أنَّه محادثة مع ذاته بدلاً من كونه مرضاً، فسيظهر له عالم جديد جاهز للتغيير، وسوف يشعر العميل أنَّه ضحية، ويبدو ذلك جلياً من خلال حديثه عن كونه ضحية، فاضطر دائماً للتضحية باحتياجاته من أجل إرضاء الآخرين.

مع اعتياد زوجته، وأطفاله على أسلوب الحياة باهظ الثمن، فإنَّه يقول لي كلاماً يوحي بأنَّه مضطر للعمل في وظيفته هذه، وهذا هو سبب إحباطه، فلا يرى حلاً لهذه المعضلة، ويوبخ نفسه عندما تراوده الرغبة في تغيير حياته، ويعمل طوال الأسبوع حتى يتمكن في عطلة نهاية الأسبوع من الحصول على بعض الوقت للحلم بامتلاك مزرعة صغيرة، وما إن تشارف عطلة نهاية الأسبوع على نهايتها حتى يشعر باليأس مجدداً لكونه سيضطر للذهاب إلى العمل مع بداية الأسبوع.

عندما طوَّر عميلي قدرته على مراقبة الحوار الذاتي، وانتبه أنَّه يتحدث لنفسه كما لو أنَّه ضحية، بدأ يدرك بأنَّه لا ينبغي أن تكون هذه هي الأفكار التي تتحكم في حياته، حتى أنَّه استعان بخبرته في مجال المحاماة ليصف "أطراف" هذا الحديث مع الذات، كالمدعي العام الذي يسعى لإدانته، والضحية التي توبِّخ نفسها لأنَّها لم تكن على درجة كافية من الكفاءة.

لقد منحه التعرُّف إلى هذين النمطين من الحوار مع الذات، وتمييزهما عن شخصيته الحقيقية، مقداراً كبيراً من الحرية؛ إذ اكتشف عند ذلك أنَّه يستطيع الإصغاء إلى أفكار أخرى يمكن أن تساهمَ في حواره مع ذاته، ولقد وجد أنَّه يملك الشجاعة، والثقة بالنفس، وهما الشيئان اللذان يمكن أن يساهما في تغيير حواره الذاتي؛ بل حتى إنَّه اكتشف جانباً روحياً سامياً في داخله لم يكن يعيه في السابق على الرغم من إيمانه بالله.

عندما طوَّر هذه الجوانب، تغيَّر حواره مع ذاته، ولم يعد يتحدث إلى نفسه على أنَّه ضحية، وأصبح قادراً على استحضار شجاعته وثقته بنفسه عند حديثه مع ذاته، وهذا منحه القدرة على عيش حياة جديدة، ثم بدأ هذا الرجل بدلاً من عيش الحياة دون إرادة واعية بتعلُّم كيفية تصميم حياته؛ أي إنَّه أصبح يساهم في صنع مصيره، وبدأ ينتقل من كونه ضحيةَ لأنماط الإدراك غير المعروفة (منطقة الراحة) إلى تصميم الأنماط بشكل واعٍ وبطريقة تساعده على صياغة حياته.

في الختام:

إنَّها فرصتك وقرارك؛ بل ومسؤوليتك في أن تصبح مساهماً في صنع حياتك، والمطلوب هو الحافز، وتنمية مهاراتك، والانضباط اللازم لتعلُّم كيفية مراقبة الأنماط، والمحادثات الذاتية التي تدور في ذهنك، والتي تتحكم في حياتك وتحدُّ من إمكاناتك، ومن ثمَّ البدء بتطوير أنماط ومحادثات جديدة بوعي، وإمكانية المشاركة في صنع حياتنا؛ هي أعظم هبة مُنحت لنا بصفتنا بشراً.

يكمن السر في معرفة أنَّ هذه الهبة غير مخصصة لخدمة غرورنا، ومهمتنا هي قبول هذه الهبة، وتنميتها، واستنهاض طاقاتنا الكامنة لتغيير العالم، ففي هذه اللحظة تبدأ رحلتك لتصبح إنساناً بالكامل على حد تعبير "نيلسون مانديلا" (Nelson Mandela) من خطاب تنصيبه عام 1984:

"ليس أعمق مخاوفنا أنَّنا على درجة غير كافية من الكفاءة؛ بل في أنَّنا أقوياء إلى أبعد الحدود، ومن ثم لن نخدم العالم من خلال تجنُّب المحاولات الشجاعة، ولقد ولد كل فرد منا ليكون شجاعاً، وعندما نسمح لذاتنا السامية بالظهور، فإنَّنا نحفِّز الآخرين على فعل نفس الشيء، وبعد أن تتحرَّر من مخاوفك تصبح مصدراً لحرية الآخرين".